الأحد، 16 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 34




- 34 -

حينما تكلّمنا عن بعض دلالات الحديث النبويّ الشريف السّابق في الإشارة إلى حقيقة المهدي وخلافة آخر الزمان الإلهية الذاتية، وأشرنا بعد ذلك إلى فقه عدم الخروج عن الحكام الذي قامَ على امتداد مراحل الأمّة موافقاً للمشيئة الإلهية ودافعاً إلى عدم الانهيار ورادعاً عن الاقتتال والنزاع الهادم لبيضة الإسلام، أردنا ذلك جملةً وحكماً عامّاً، وما كان خروج الإمام السّبط الحسين بن علي عليهما السلام عن بيعة يزيد عليه خزي الله تعالى إلاّ إعلانا منه عليه السلام عن حقيقة ما هو قادم من هذا الملك العضوض الذي لم يكن ليوازي ولا ليقارب الخلافة الراشدة القائمة بالحقّ ظاهراً وباطناً، وأنّ هذا الملك العضوض اختلط فصار مرتعاً للهوى والنّفوس والحظوظ وظلم الحكام وجورهم، فقد صارَ كالورقة المجهولة بالإمكانين والقُرعة ذات الوجهين، تارةً تخرجُ منه إمارةٌ صالحة عادلة على العموم كما هي إمارة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وغيره من السلاطين الصالحين الذين عرفتهم الأمّة المسلمة طوال فترة هذا الملك العضوض وهم كثير، خلاف الحكم الجبري الذي انعدم فيه أو كاد، الحكم الصالح، وتارةً تخرج منه إمارةٌ جائرة ظالمة فاسقة عابثة كما هي إمارة يزيد عليه خزي الله. فالإمام حسين عليه السلام أرادَ أن يُعلنَ حقّ المسلمين في خلافة راشدة ترجعُ إلى أهلها الذين حازوا خلافة الباطن، وتقيم العدل وتجبرُ الشرخ الذي وقع بين الظاهر والباطن، لما رآى في انفصال الظاهر عن الباطن من شرّ على المسلمين يزيدُ مع الأّيام،وعلى ذلك استشهد عليه السلام. ولكنّ أمر الله سبق عليه، فما كانت حركته إلاّ تنديداً بالكارثة التي حلّت بالإسلام والمسلمين بهذا الانفصال بين الظاهر والباطن، بين الخلافة الظاهرة والخلافة الباطنة.

فالفقه قامَ موافقاً للمشيئة الإلهية كما سبق أن قلنا، وحامياً لما تبقّى من وحدة المسلمين وبيضتهم، وما كان الفقهُ والشرعُ مدافعاً عن ظلم الظالمين وحكم الجائرين وتجاوز الانتهازيين من أبناء الدّنيا المتنازعين على الحكم والسلطة والجاه، وأنّ سيرة السّلف رضوان الله عليهم، سيرة أعيانهم وصالحيهم شاهدةٌ على ابتعاد الصالحين عن مخالطة الحكام الجورة والظلمة، وعدم التواصل معهم على سبيل الرضا بسياساتهم وحظوظهم، بل كانت يدُ الأئمة أعلى ونفوسهم عزيزةٌ، عزيزة بما هو عليه الحقّ الذي يمثّلونه ويرمزون إليه، المتنزّه عن الدّنيا وسفالتها وظلمها وجورها، وما كان التواصل قائماً أحياناً إلاّ من باب المناصحة والأمر بالمعروف وفي حدودٍ ضيّقةٍ جدّاً، هذا عن سيرة الصّالحين والأعيان الذين زكّتهم الأمّة، وكما كان الحاكم العادل الصالح مستنصراً بالله ليحكم بالعدل والصلاح، فكان صالحو زمانه يمدّونه بالتأييد مقدار استجابته لأمر الله تعالى فالله يقول {وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ}الأنفال:72. فكان حقّاً على المؤمنين نصرُ من يستنصرُ بالله صادقاً، فكان الأمرُ نسبياً قائماً على الحقّ أينما دارَ، وما كان أهلُ الله وأهل الصّلاح يداً في يدِ الحكّام ولعبةً وامتداداً لهم ولظلمهم على العباد، فالشرعية مثبتة لهؤلاء الحكّام كما ذكرنا، بحكم الحكمة والرّحمة العامّة وأمر الله سبحانه ومشيئته الموافقة لحقائق النّاس وبواطنهم كما قيل "كما تكونوا يولّى عليكم"، أمّا النّصح والنّصيحة فواجبٌ للحكام وبالطريقة التي تستدرُّ خيرهم ورحمتهم بالرعيّة ما أمكنَ ذلك. كما جاء في الحديث الصحيح (الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم) رواه البخاري ومسلم .
وهذا الكلام ذكرناهُ عن المراحل التي كان الخروج فيها بغياً واعتداءً وتجاوزاً على وحدة المسلمين وكسراً لبيضتهم.



________________




وعوداً لذكر المهدي وحقيقته العالية، فقلنا المهدي هو الخاتم الجامع بين الأضداد، كما جمعَ الأصلُ بين الأضدادُ، إذ هو عينُ الأصلُ بسرّه المطمطم، فالإنسان ذكرنا أنّ الله أودعَ فيه الأمانة التي هي الصورة والتي أشفقت منها السموات والأرضُ وأبينَ أن يحملنَها إبايةً راجعةً للوسعِ والقابلية التي أودعها الله في خلقه، وحملها الإنسانُ، حملَ هذه الأمانة وهذا السرّ العظيم، سرّ الخلافة فكان ظلوماً جهولاً، ظلوماً بظلمه لنفسه وغفلته عن عظمة هذه الأمانةِ وقدرِهاَ، جهولاً وفقاً لكونِهِ سبحانه لا يُعرفُ إلاّ بأسمائه وصفاته، فصارَ الإنسانُ بهذا الاعتبار في مقامِ الحيرةِ بين العجز والإدراكِ، وبين العلمِ والجهلِ، فالإنسانُ وحتّى بكونِهِ الإنسان الكامل الحامل لهذه الأمانة فالوصفانِ منطبقانِ عليه، الظلم والجهل. فمن حيث هو أعلمُ بالله فهو جاهلٌ بما لم يتجلّ الله به، فهو عالمٌ مدركٌ بما تجلّى الله عليه به، فالهويّة غيبٌ، والكنهُ غيبٌ.فافهم. وهذا هو مقامُ الحيرة والعجز الذي ذكرهُ الأكابر، ووردَ ذكرُه عن سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه "زدني فيك تحيراً‏"‏‏ وهو مطابقٌ لقولهِ تعالى {‏‏وقلْ رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً‏}‏‏[‏طه‏:‏114‏]، فالحيرة ناتجةٌ من العجز عن الإدراك والجهل بالغيب المطلق. وفي هذا المقام قال صلّى الله عليه وسلّم : "لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفسِكَ". وقال الصدّيق الأكبر رضوان الله عليه : "العجز عن درك الإدراك إدراك". فهو إدراكٌ تامّ، في غاية الوسع والإمكان، وهو في نفسِ الوقتِ عجزٌ عن إدراك الكمالات التي لا نهاية لها والتجليّات المفاضة من عين الذات، لأنّ الله لا نهاية لتجليّاته وكمالاته. فما حمدَ الله سواهُ فاعلم، وما قامَ بحقّ حمْدِ الله إلاّهُ، ما حمدَ الله إلاّ اللهُ سبحانه، فهو الحامدُ والحمدُ والمحمودُ، ولا يزالُ سبحانهُ في غيبيّته وكنزيّته، فما عرفَ خلقُهُ إلاّ ما تجلّى به عليهم، فبذلك عرفوهُ وذلك هو غاية العرفان به، وهنا قالَ أحد العارفين بالله تعالى في قوله  تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [‏الكهف‏:‏28‏]. قوله تعالى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، فغاية معرفتهم به وإرادته هي معرفة وجهه، والوجه هو هنا معرفة تجليّاته التي تجلّى فيها، وقرَنَ الوجه بضميرِ الغائب والهويّة، فقطعَ عنهم معرفة هويّته مطلقاً، معرفة كنه ذاته وحقيقته سبحانه. فالله أغيرُ الغيورين كما جاء وصفه في الحديث النبويّ الشريف، وغيرتُه الكبرى تجلّت في أنّ ختم أسمائه كما قال الشيخ الأكبر هو الإسم "هُو". أي ضمير الغائب. فما عرفَ الخلقُ، وقولنا الخلقُ بما في ذلك مسمّى الإنسان الكامل الذي يُطلقُ في حقّ خير الخلق صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فما عرفوا في نهاية العرفان بالله سبحانه والعلمِ به إلاّ وجهَ التجلّي، وأنّ كلّ شيءٍ يرجعُ إليه سبحانه هُو، فقال عزّ من قائلٍ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}[‏الحشر‏:‏22‏] فبدأ بـ "هو" وانتهى بـ "هو". فهذا هو ختمُ الأسماء. فكلّ شيءٍ راجعٌ لله سبحانه هو، فكان الإسم "هُو" راجعٌ إلى الذات الساذج القائمِ بكلّ تجلٍّ حقّي وخلقيّ. وهيهات أن يُدرِك المدركون ما عرّفه الله بضمير الغائب، هُو، فلا يزالُ غيباً غائباً، فافهم، تعالى الله عمّا يصفون، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74].


يتبع ...