الأربعاء، 26 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 37




- 37 -
 
قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "العلم نقطة كثرها الجاهلون". فالعلم مصدرهُ نقطة الإمداد أو نقطة الاستمدد، وهي نقطة تجليّات الذات العليّة، ذات الله تعالى سبحانه، ولكن في تجريد القول والعلم فقد ضرب الله لنا الأمثال، فجعل النقطة والحروف والكلمات المسطورات أنموذجاً دالاًّ على التوحيد ومُبسِّطاً لترتيباته، لمن كان ذا فهمٍ واستشفافٍ ووقوفٍ صادقٍ يرجو به الفهمَ والعلم ووجهَ الله سبحانه لا يرومُ البقاء في احتكاراته وعصبيّاته، فالحقّ مطلَقٌ ويبحثُ عن أهلِ الإطلاقِ والصّفوِ من أكدارِ النّفس وأصنامِ الهوى واجتناب العجب بالرّأي ليَشِيَ لهم بأسراره ومفاتيحه وأنواره، وهنا كلامٌ يطولُ، وما جاء الدين إلاّ لإتمام مكارم الأخلاق وتحقيق الرّحمة وتصفية الإنسان من أحقاده وأصنامه وكذا إطلاقه بالعلم والنّفع والخلافة في الأرض والإعمار والحياة، ولفظة الحياة واسعةٌ رائعة تشملُ حياة الرّوح وحياة العقل وحياة القلب وحياة المفاهيم وحياة المعاملات فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان، فهي حياةٌ وروحٌ ورحمةٌ وأخلاقٌ قامَ عليها الدين. ومهما رأيتَ ديناً يقومُ على العصبيّات والاحتكارات ونفي الغيرِ مطلقاً والقسوة والإقصاء والأحادية، وإطلاق الأحكام بحقّ الغير أحكاماً تشبه صكوك الغفران وصكوك الإقصاء في عهد العصور الوسطى الظلامية التي غرقت فيها الكنيسة ورهبانها، فكانت النتيجة أن تحرّر الإنسان الغربيّ من الكنيسة بسبب فسادها وإظلامها ووصايتها على الناس وأحكامها الغير متماشية مع حقيقة الدين ودوره في الحياة، وكذلك اليوم ابتلينا بهذا التديّن الوصيّ على النّاس، والمحتكر للحقّ، والبعيد عن الرّحمة والحاكم على الغير بالنفي والإعدام والإقصاء باسم الله سبحانه زوراً، والله براءٌ من ذلك ودينُه. قلتُُ فمهما رأيت ديناً كالذي وصفناهُ فاعلم أنّه ليس ديناً، بل هو أعراف وأمزجة بشريّة مريضة التبست بالدين وقداسته وارتدتْ جلباب القداسة ظاهراً والباطنُ ملوّثٌ والجوهرُ معلولٌ واللبّ خاوٍ من روحه، الرّوح التي جاءت من مهدِ الرّحمة من رحِمِ النبوّة الهادية وحقيقة الإسلام، فدين السّماء دين الله جاء متوافقاً مع الإنسانية والحياة وسعتها، لأنّ الذي أرسل الرّسل والأنبياء عليهم السلام هو خالق الكون والإنسان، فاطر الخلق والأكوان، فما أنزل للناس دينا وأحكاماً تحكمُهم إلاّ من أجلِ إسعادهم وتنويرهم وإحيائهم الحياة الحقيقية ومن أجل رحمتهم، بل ما سمّى سبحانه صفوة خلقه وخير رسله صلى الله عليه وسلّم إلاّ رحمةً للعالمين قال سبحانه عزّ وجلّ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107). ثمّ انظُرْ رحمك الله إلى عمق الحياة التي نطرُقُها هنا كمثال من الأمثلة، ونحنُ نتكلمُ عن عالم الكمال والصوفية الأحرار الذين تطهّروا عن الأكوان وحازوا الخلافة التي أرادها الله لهم بكمالها، فالإنسان خلقه الله للخلافة بصفة عامّة سواء كانت الكاملة أو الخلافة الإنسانية العامّة والـتعميرية في الأرض، وهذه الخلافة أساسها العبودية والإيمان والإحسان في الأرض، وذلك بما أودعَ الله من سرّ هذه الخلافة في الإنسان ليسعدَ ويتحرّر غاية الحريّة، وتلك الحريّة تُنالُ بالعبودية الصادقة لله، فالعبودية هي عينُ الحريّة والكمال، كما ذكرنا في محافل سابقة أنّ الإنسان برزخٌ بين الخلق والحقّ، وأنّ الصورة التي خلق الله عليها الإنسان هي ذاتُ هذه الثنائية والبرزخية بين الخلقية والحقيّة، فلا تُنالُ الكمالات الحقيّة والأخلاق الإلهية إلاّ بتحقيق العبودية المحضة لله تعالى، والصّدق غاية الصّدق في العبدية، فحينها يتحقّقُ العبدُ بكونه عبداً أخلاقه القرآن، وحرّاً متحرّراً من قيد الأكوان بروحه السّابح في ملكوت الرّحمن سبحانه. والمثالُ ضربناهُ من أجل التأمّل في عمق الدّين وجماله وحريّته وسعته وحقيقته والخروج عن الأنا مطلقاً، ليرى العبدُ نفسه عبدا لله تعالى، ويرى الخلق عيال الله تعالى فيحسن إليهم باسم الله ويرحمهم ويتعالى عن الحقد والتعالي والإقصاء والخطاب الاستفزازي والمستعلي، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ لِعِيَالِهِ" رواه ابن حبان والبيهقي. بل مذهبُ الصوفية وهم من صفوة الصالحين في التحقيق ألاّ يروا أنفسهم أفضل من عباد الله تعالى، برغمِ ما ألبسهم الله من لباس الفتوح والحريّة والكمالات، لأنّ الحقيقة التي تحقّقوا بها تفرضُ عليهم ذلك، وليس تكلّفاً أو زوراً أو دعوى يطلقونها، فهم يرون الخلق بمنظار الواحدية، الكثرة الدالّة على الواحد سبحانه، وبالتّالي فلا يجدونَ إلاّ لغة الفقرِ إلى الله في معاملاتهم مع الغيرِ، فهم مفتقرونَ إلى كلّ شيءٍ تخلّقاً بالفقرِ إلى الله سبحانه، لذلك سمّوهم الفقراء. وهكذا من كانت مشكاته الرّحمة والأخلاق والتواضع والإحسان لخلق الله تعالى فهو في زمرة الصالحين والمقتدين بهدي الأنبياء عليهم السلام. أمّا الصّنف الذي تكاثرَ اليوم من المتنطّعين المتطرّفين الصّخابين الإقصائيين فأين امتدادهم إلى ربّهم ؟ وأين هداية النبوّة الرّحيمة فيهم ؟ وأين سماحة الإسلام والأديان السماوية فيهم ؟ وأين حقيقة إيمانهم ؟ إن هم إلاّ مدّعون، واقفون على الرّسوم والتسطيح والمظاهر الفارغة، شعروا أو لم يشعروا بذلك، ومن ورائهم الشياطين تأزّهم أزّاً، وتعبثُ بهم عبثاً، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. قال الله تعالى ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًاالكهف:103-104

فعوداً لموضوعنا العلم نقطة، قلنا : حينما تكلّم أهلُ الله عن النقطة والحروف والكلمات، كانوا يريدون المثال بوسعه وقابلياته وتجريده، فهو فوق حصر نقطة الكتابة، وإن كانت نقطة الحبر مثالاً موضّحاً ومقرّباً لما أرادوهُ.
فقول الإمام علي رضي الله عنه "العلم نقطة"، يريدُ نقطة الإمداد والإطلاق كما ذكرنا، ونريدُ توضيح ذلك بقولنا أنّ النقطة من كونها نقطة ( . )، جمعت فيها الإبهام والغموض والإطلاق والأوّلية والأصل، فهي من كونها نقطة فهي أصلُ الحروف والكلمات، فانظر للحرف فلا تجدُه سوى نقطة قرب نقطة قرب نقطة فرسمت تلك النّقاطُ حرفاً، والحروف شكّلت الكلمات، وهكذا.

فهي نقطة ولكنّها عند الوقوفُ عليها جمعتْ الإطلاق كلّه، فجميع ما فاض من حروفٍ وكلماتٍ فهو من جَيْبِ تلك النّقطة، وهي لا تزالُ تفيضُ بلا انتهاءٍ بالحروف والكلمات، فتعجبُ منها، كيف طوَتْ فيها ما لا ينتهي، فكانت بحر الفيوض، وبحارُ العلم جميعها فاضت منها، من النّقطة، وهي مع ذلك ما زالت جامعةً للإطلاق الغير مُقدّر والغير مُدرك أبداً، فلا تزالُ غيباً غيهباً جميعُ ما فاضَ منها من إفاضاتٍ عاجزاتٌ أن يُدركنَ كنهَ تلك النقطة وإطلاقها ووسعها وبحارها، وهيهات أن يُدركنَ ذلك، وكيف يُدركُ الفرعُ الأصلُ والجزءُ الكلُّ، والقيدُ الإطلاقُ. فتأمّل هذا المثال العظيم الذي ضربه الله لنا، على ألسنةِ أهل العلم بالله، كما قال الإمام علي عليه السلام "العلم نقطة كثّرها الجاهلون"، كثّرها الجاهلون إذ وقفوا على فيوضها وفروعها وظلالها يحصونهم إحصاءً، وهم عاجزون عن إحصاء نقطة من بحر تلك الفيوض والفروع والظلال التي فاضتْ، وغفلوا عن مصدرِ تلك الفيوض، وعن سرّ تلك الأمداد، ومنبعِ ذلك الجريان، فوصفَهم الإمامُ بالجهل، لأنّهم حادُوا عن الأصلِ وعن الحقيقة وعن نقطة النّبع والفيض، فلو وقفوا على هذه النّقطة وأحكامِها وشؤونها وأسرارها، أسرارها التي تدورُ حولها، لا أسرارها المكتنزة في عمائها المتعلّقة بكنهها، فتلك أسرارٌ هيهات أن يُدركها المدركون، قلتُ لو وقفوا على هذه النّقطة لعرفوا الحقيقة ولعلموا كلّ العلم، ولتحقّقوا كلّ التحقّق، كما تحقّق المتحقّقون.


وعلى هذا المثال قام أنموذج التوحيد، وتجلّت المراتب والمنازل وسائر الإضافات والاعتبارات، فصار لدينا ذات وصفات، وهويّة وتجليّات، ولاحتْ حقيقة قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة/115. فأينما تولّي فثمّ تجليّات الله سبحانه وثمّ آثار أسماء الله سبحانه وصفاته، حروف وكلمات النقطة، ما ثمّ إلاّ النّقطة في الحقيقة عند تجريد تلك المظاهر والصور والتعيّنات، والنّقطة هنا مثال ورمز فقط، لنربطَ لك صورة الأنموذج المضروب، فتفهمَ الحقيقة. فمتى دقّقت لاحَ لك وجه النّقطة، وجهها الظاهر أمّا حقيقتها وكنهها وإطلاقها فهو غير مدرك، وهذا هو غاية العرفان فافهم، غاية عرفان العارفين معرفة ما تجلّى به الله سبحانه من إطلاقه وغيبه، فلا يزالُ سبحانه غيباً. ليس بخلاً أو تقييداً أن يعرفَ الخلقُ إطلاقه وكنه ذاته، بل الله أكرمُ الكرماء وأجود أهل الجود وهو نقطة الجود والكرم والرحمة والعلم والسّخاء، وإنّما كما قال أهل العلم بالله لأنّ الأمر كان على ما هو عليه، فما كان صورةً ونسخةً وفيضاً ليس له أن يدرك ما كان أصلاً وذاتاً وحقيقةً. فهي النّقطةُ ثمّ ظهرتِ الحروف ثمّ ظهرت الكلمات، وهكذا. وتنوّعتِ الحروفُ وتفاضلتْ، ووقع تفاضلُها بالصورة، فما كان قريباً صورتهُ من النقطة حازَ من كمالاتها أكثر، ألا ترى أنّ الألف كان أقرب الحروف إلى النقطة، فهو نقطة قرب نقطة، فبَعُدَ عنها بُعداً واحداً، ثمّ كانت الباء بعدت عن النقطة بُعدين. وهكذا.


يتبع ..