الجمعة، 28 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 38


- 38 -



فقلنا ما بخل الله تعالى على خلقه بالتجلّي والجود وما يدورُ في دائرة سعادتهم الكبرى، بل إنّ حقيقة الوجود هي التوحيد وكان الله ولا شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان، فما خلق الله الخلق إلاّ ليرحمهم به سبحانه بالبقاء به، وبوجوده الذي لا يزول ولا يتعلّقُ بالأوقات والأزمان والأمكنة، وُجُوده المرفوع عن الأين والكيف والبين، فهذا هو الفضل  العظيم، وهذا هو منتهى السعادة والكرم.

ولمّا كان العلمُ بحراً، وكانت الحقائقُ أسراراً وقابلياتٍ فقد بقيَ العلمُ عند أهله الأمناء ينفقون منه قدر الحاجة والنّفع للخلق، فما ظهر من الشرائع والحقائق هو للصالح العام، فقد أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يُخاطَبَ النّاسُ بما يعقلون وبما يستوعبون وبما لا يفتنهم، عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يغرب عنهم ويشق عليهم».
وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
وأخرج البخاري  عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا ـ رضي الله عنه ـ يقول: "أيها الناس أتريدون أن يُكذّبَ الله ورسوله، حدِّثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون".  وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله».

وصحّ عن أبي هريرة قوله "حفظت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.".
وورد أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ قال : "لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع". وجاء في إحياء علوم الدين قول أبي حامد الغزالي "كِلْ لكلِّ عبد بمعيار عقله ، وزِن له بميزان فهمه حتى تسلم منه ، وينتفع بك ، وإلاّ وقع الإنكار لتفاوت المعيار".

فتأمّل هذه اللاّفتات التي وضعها أهلُ الحكمة والعلم، فخاطبوا الناس قدر ما يفهمون وما ينتفعون، وأمروا غيرهم بذلك، وأنّ الإنسان عالمَ ٌكبيرٌ، عالم اختبره الله تعالى، بالخلافة والنّفس والأرض فدارت دوائر الصراع فيه وحوله وفي عالمه، واجتذبته العوالم من حوله، الأرض والنّفس تجذبه، والسماء والقدس تدعوه لمنزلته الأصلية وموطنه الأوّل. فهامت الحقائق في تلك الدوائر المتداخلة، فالإنسانُ برازخٌ متداخلة، فليس سهلاً أن يستوعبَ الحقائق على ما هي عليه، وهو ضائعٌ في تداخل تلك البرزاخ ولم يتوازن فيها ولم يملك زمامها ولم يعرف حقيقته وهويّته، ولم يحسن قصده، ولم تصفو نفسه ولم يميّز عدوّه الشيطان من هداية الرّحمن، فالإنسانُ يتدفّقُ بداخله وساوس الشيطان وخواطر النّفس وإلقاءات الرحمن ومداخل الفكر والخيال والوهم والعقل، كلّها تتقاطعُ وتتدافعُ كالموج الهائل، لذلك جاء خطابُ أهل العلم والحكمة أن لا تلقى الحقائق الكبيرة بثقلها في عموم الطرقات، وفي متناول الجميع، فإنّه لا تتساوى النّاس في هضمِ الأفكار، ولا تتساوى في القابليات والمعيار. كما لا يُترَكُ الدواءُ وعقاقيرُهُ في متناول الأطفال، فهم لا يقدّرونَ قدره، ولا يعرفونَ خطره ونفعه، وقد يشتبهُ عليهم أي الأطفال فيجدونه يشبه الأطعمة والأشربة التي يتناولونها في العادة، فيهلكون بتناوله على سبيل الجهل وعدم معرفة حالاته وضروراته، وهكذا فكلّ شيءٍ جعل الله له مراتب ومعايير وقابلياتٍ. ولو كان النّاس على قابلية واحدة لما اختلفوا وتمذهبوا وتنازعوا طوائف ومذاهب، ولما تفرّقوا طبقاتٍ منهم العوام ومنهم المثقّفون ومنهم المفكّرون والعلماء ومنهم المشغول بمعيشته وكدّه عن غرائب الأفكار وعن عزائمِ التحقّق، وجاء خطابُ الكتمِ كي لا يكيدَ  إبليس وشياطينه لتلك الحقائق العاليات فيزوّرها ويستخدمها بواسطة أشياعه وأتباعه من الإنس والجنّ ليحولَ بين النّاس وبين أهل الحقّ، فاعلم أنّ أشدّ النّاس على إبليس هم الذين ذكرهم الله في القرآن على لسان إبليس ((فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) ص:82، 83. هم العباد المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله له، أصحاب الإسم الأعظم، الأولياء فإنّه لا سبيل للشيطان إليهم، ولا سلطان له عليهم، لأنّهم خارج الأكوان، فنوا في ذات الله ثمّ بقوا به، فهم باقون بالله تعالى فأنّى يكونُ للشيطان سبيلٌ لمن بقاؤه بالله إذا نطق نطقَ بالله، وإذا رمى رمى بالله، وإذا سعى سعى بالله وهم المعنيون في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه : قالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إِنَّ اللَّه قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.".

فقلنا كان أشدُّ الناسِ على إبليس وخططه ومكائده ومداخله وشروره هم العالمون بها، العارفون به المستمسكون بحبل الله المعتصمون بهديه وشرع نبيّه صلى الله عليه وسلّم، فكانَ من كيد إبليس أن استعمل ما ينسبُ لهذه الطائفة العارفة بالله من بعض الاصطلاحات والوسائل التي لا تُخبرُ إلاّ ذوقاً وسلوكاً ولا تُعرَفُ إلاّ على وجه الإحاطة بها وممارستها والإحاطة بخلفياتها، فاستعملَ ذلك سلاحاً تلبيسياً ضدّ هذه الفئة ليحولَ بينها وبين النّاس أن يجدَ النّاسُ حياة روحهم وما ينفعهم وما يدفع عنهم شرّ إبليس وشياطينه وتلبيساته وتدجيل الدجال معه وأشياعه، ولو تأمّلتَ بعين الاطّلاع والإنصاف لعرفتَ لماذا في الأزمان المتأخرة وفي العقود الأخيرة خصوصا وفي زماننا على الأخصّ كثرَ الإنكار على الصوفية وطائفة العارفين بالله، ورميهم بأشدّ الأوصاف وأقذعها وتنفير العوام والناس منهم، فقد نجح إبليس والدجال وأشياعهما في تلبيس الحقّ بالباطل وقلب الموزاين والمعايير، وسحر النّاس ولفتهم عمّا ينفعهم وأخرجوا للنّاس في المقابل مراجع مزيّفة وفكر منحرف وتديّن دخيل، فاعتلى المنابر الرويبضات، وارتدى جلابيب العلم والفقه القاصرون والجهلة فضلّوا وأضلّوا، روى البخاري في صحيحه أنّه صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
فصار مثل هذا العلم العتيق الأصيل علم الولاية والقرب من الله تعالى علماً منبوذاً ومنكراً محذوراً يُنهى عنه في المنابر ويحذّرُُ منه في المحافل والمجامع، فيالها من كارثةٍ حلّت بالإسلام وروح الإسلام، فهذا العلم هو القائم بروح الدّين، وهو ركن الإحسان، وركن مراقبة الديّان، وركن عبادة الله تعالى على الشهود والعيان "فإن لم تك تراه فإنّه يراك" كما قال صلوات الله وسلامه عليه، علم طيّ الأكوان والحضرات إلى الله ومعرفته التي خلقنا من أجلها، فقد قال أغلب أهل العلم بل أجمع المحقّقون منهم أنّ المقصود في قول الله تعالى ليعبدون أي ليعرفون. قال سبحانه عزّ من قائلٍ : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. [سورة الذاريات: 56]. فلبّس إبليس ودجّل الدجّالُ الحقّ بالباطل وأفرغ الحقّ من مقاصده ومراميه، وصيّر القوالب والعناوين لمحتوياتٍ مدلّسة ومعاني فارغة مسطّحة ومفاهيم ملبّسة ومدجّلة. وهذا لو وقفتَ عليه من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلّم لوجدتَ الدليل عليه، وما يحدثُ في آخر الأزمان من تلبيس وتدجيل، فالتلبيس حرفة إبليس، والتدجيل وظيفة الدجال، لذلك سمّي الدجّال، لأنّه يدجّلُ الحقّ بالباطل، لعبته الخفاء، أي يتلبّسُ بالحقّ ليدسّ للنّاس الباطل والشرّ. أخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، والديلمي في الفردوس، بألفاظ متقاربة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم قالوا وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه يا رسول الله ؟ قال : كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون , قالوا وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟! قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون , يقول الله تعالى : بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران ".
فيصبحُ المنكر معروفاً يؤمرُ به، ويصبحُ المعروف منكراً ينهى عنه، في أعظم تلبيس وتدجيلٍ عرفته الأرضُ، وهذا التدجيل والتلبيس له أشكالُ متعدّدة، ودرجات مختلفة كالألوان التي تتدرّجُ في أطيافها في اللّون الواحد، فافهم. وإنّ من أعظم التدجيل هو الفرقة والخلاف والتناحر والتحزّب الذي ابتليت به الأمّة، ولغة الإقصاء والتطرّف، وتبديع أهل الحقّ والتجرّأ على أخيار الأمّة وسلفها وخلفها وعلمائها وفصل الأمّة عن مراجعها فصلاً يشملُ ذلك الاحترام والمحبّة والتعظيم والتوقير ومعرفة الفضل لذوي الفضل.

روى الحاكم في مستدركه ( 4 / 596 برقم 8659 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى ، 1411 - 1990، بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا ) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان العامري ثنا عمرو بن محمد العنقزي ثنا يونس بن أبي إسحاق أخبرني عمار الدهني عن أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال : كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال علي رضي الله عنه : هيهات ثم عقد بيده سبعا فقال : ذاك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل فيجمع الله تعالى له قوما قزع كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم لا يستوحشون إلى أحد و لا يفرحون بأحد يدخل فيهم على عدة أصحاب بدر لم يسبقهم الأولون و لا يدركهم الآخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر ) . قال أبو الطفيل : قال ابن الحنفية : ( أتريده ؟ قلت : نعم ، قال : إنه يخرج من بين هذين الخشبتين ، قلت : لا جرم و الله لا أريهما حتى أموت ، فمات بها يعني مكة حرسها الله تعالى ) قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ووافقه الذهبي في التلخيص ، فقال : ( على شرط البخاري ومسلم ).

فانظر لهذا الأثر الصحيح عن الإمام علي عليه السلام كيف يؤولُ الأمرُ في آخر الزمان، فإنّه يصبحُ القائلُ : الله الله، مستباح الدمّ مستهدفاً، وذلك هو غرضُ إبليس والدجّال، فلا تمكين لإبليس ودجاله بوجود أهل الإسم الأعظم الطائفة العارفة بالله، لذلك ينشئ للمسلمين فرقاً مزيّفةً مدخولة ملبّسة الفهم مسفوعة النّفس، تعادي هؤلاء الأخيار العارفين المصلحين أهل الحقيقة والشريعة، أهل الرحمة والجهاد الحقّ ضدّ الباطل. فاحذر آخر الزمان، واحذر المدخولين واعتصم بالله تعالى وابتعد عن نهج البغضاء والفرقة بين المسلمين. كما أنّ هذا الأثر الصحيح ينبؤك أنّ المهدي عليه السلام المنتظر المبشّر به من النبيّ صلى الله عليه وسلم أشياعه وأصحابه أهل الصفّ الأوّل الذين يبايعونه البيعة الأولى بين الركن والمقام هم العارفون بالله تعالى أصحاب الإسم الأعظم. ثمّ يلتحقُ بهم كلّ محبٍّ للحقّ مخلص مسلمٍ نبذ الظلم والفرقة والبغضاء بين المسلمين جميعا، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام-159).


ثمّ إنّ هذا العلم علم الحقيقة هو درّة العلوم وصفوتها وخلاصتها، فاختصّ بأهلِ الإرادة النقيّة والهمّة العالية وإخلاص القصد لله سبحانه، لذلك ظهرتِ الطرائقُ والمدارس الصوفية، لكي لا يُحرَمُ أهلُ الحكمة والقصدِ من هذا العلمِ النافع وهذا الطريق الخالص، وهي بوجودها أي هذه المدارس عبر تاريخ الأمّة المسلمة كانت خاملةً ودارسةً، ولها أساليبها التي غالباً ما جعلتِ النّاس تزهَدًُ فيها، ليس لعلّتها، بل لعلوّ قصدها وطريقها وخلاصته، فلا يقدرُ عليه كما قلنا إلاّ من صفت إرادتُه وعلت همّته وخلصت نيّته لله تعالى، فالتصوّف اصطلاحاً وتخصّصاً، والإحسانُ ركناً من أركان الديّن الثلاثة الذي هو يعني كمال الإيمان والإسلام، فهو مكمّل الركنين الأوّليين وهو دائرة التحقّق الباطنيّ والظاهري على السواء، ودائرة الثمار الذي يظهرُ به الصادقُ مع ربّه، لذلك خصّت الكرامات أكثر ما خصّت بهذه الطائفة، لأنّ الكرامات تدخلُ في دائرة الثمار والعطايا بعد التحقّق، والكرامات في عُرفِ القومِ أي المتحقّقين هي بدايات العطايا وصغارها ولا معوّل عليها في الحقيقة، بل التعويلُ عند القومِ في الاستقامة والتشرّع، فتلك هي رتبة الورثة الوارثين للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم. وأعلى الطبقات عند القوم هم طبقة يسمّونهم الملامية، وهو اصطلاح خصّ به صفوة الصوفية، الذين تطهّروا عن الأكوان وعن الرّعونات والتطاول على الخلق واحتجبوا عن الظهور بالكرامات أمام النّاس وغير ذلك، فالملامية ظاهرهم كالعوام في الحفاظ على الخمس والبساطة وعدم التميّز وباطنهم الفقر لله تعالى والتحقّق الصادق والإخلاص. عجزَ أن يتعرّف إليهم الخلق أبداً، فلا يعرفهم أحدٌ إلاّ من كان منهم، لأنّهم يتعارفون في السّماء، أرواحهم متعارفة، وأخلاقهم أحسن الأخلاق. لتعلَمَ هذا الطريق الأقدس الأنفس، فإنّه خلاصة الطرق، واختاره الله لصفوته من خلقه، يقولُ الإمام الجنيد رضي الله عنه "لو علمت أَن لِلَّهِ علما تَحْتَ أديم السماء أشرف من هَذَا العلم الَّذِي نتكلم فِيهِ مَعَ أَصْحَابنا وإخواننا لسعيت إِلَيْهِ ولقصدته". فلا أعظمَ من علم التصوّف علم الولاية، وهو ليس علماً مجرّداً، بل هو علم ذوقيّ سلوكيّ شهوديّ، وطريقٌ له سبله، ركنُه الأعظم هو الشيخ العارف الواصل، النّاهل من حضرة الحقّ سبحانه، فإذا وجد القاصد الشيخ لزمَ بابه وتمسّك به كما يتمسّكُ المريض بطبيبه الذي عرف حذقه مهارته وإتقانه، وكما يتمسّكُ الطّفلُ بأمّه التي ولدته لا اعتراض له عليها، وهي التي لا تزالُ كفلُه وترعاهُ وتربّيه حتى يغدو راشداً. فالشيخ شرطه أن يكون عارفاً من أهل حضرة الله حقّاً سلك الطريق ووصل وتحقّق وصارَ نائباً مرشداً، فهذا أعظمُ التطهّر والاغتسال، فإنّ الاغتسال يكون بالماء، فإذا عدم الماء يكونُ بالتيمّم، فاعلم أنّ حقيقة الطهارة عند القوم هو الاغتسال بماء الغيب، وماء الجبروت، وليس يقدرُ المرءُ أن يغتسل هذا الاغتسال ويتطهّر هذا التطهّر إلاّ بوجود من يملكُ هذا الماء والقادرُ على إفاضته على روحك ليطهّرك من جنابات الدّنيا ونجاساتِ النّفس وعيوبها ونفثات الشياطين، فكان أهل حضرة الله الذين تطهّروا من الأكوان هم مددُ هذا الماء الطّاهر المطهّر، وغيرُهم متيمّمون بالصّعيد الصالح وهو الطاعات الظاهرية. أمّا المغتسل بماء الغيب فقد تطهّر طهارة باطنةً من عيوبه ورجع بنفسه إلى حضرة قدسه، إلى موطنها الأوّل والأصليّ فعرفت ربّها ولزمتْ حضرته وصار ماءُ اغتسالِها الماء الطّاهرُ المطهّرُ للغيرِ، وأمّا من لم يدخلْ حضرة الحقّ سبحانه فهو متيمّمٌ بالصّعيد الطّيب. وأمّا المعتصم بأهل الحضرة الإلهية فهم مستمدٌّ من أمدادِهم وفيوضهم أن يفيضوا عليه بماء الغيب الطّاهر المطهّر ليغتسل من جناباته وعيوبه.
قال العارف بالله رضي الله عنه :
تَوَضَّأ بِماءِ الغَيْبِ إنْ كُنْتَ ذا سِرٍّ .... وإلا تَيَمَّم بالصَعيدِ أو الصَخْرِ
مصداقاً لقوله تعالى {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فأحتمل السّيل زبداً رابياً}[ الرعد /17]. فضربَ الله لنا الأمثال، وشبّه العلم النّافع وماء الغيب بماء المطر النّازل من السماء على الأرض أرض الشهادة وأرض القلوب فسالت أوديةً  هذه الأمطارُ بقدرها تسقي القلوب والنّفوس كلّ بقدره ووسعه وقابليته واستعداده وهمّته وطلبه ليتطهّر من الأدناس والأغيار والشوائب فاحتملَ السّيلُ الزبدَ رابياً طافياً ودفع عن تلك القلوب والنّفوس أدناسها وأغيارها وشوائبها وأكدارها.

يتبع ..